1) حول المدينة قبل "سياسة المدينة ".
لم تكن المدينة في الأول سوى نواة اجتماعية صغيرة جدا، اعتبرها الباحثون أول حدث في نشوء الحياة الحضرية. فالحاجة في الحصول على الغداء والحماية اللازمة من اجل البقاء كانت الباعث إلى تجمع الأفراد حول بعضهم في أماكن معينة.هذا التجمع أدى إلى حدوث تفاعل أصيل بين الإنسان والبيئة واتجه به نحو التفتيش عن الوسائل التي تنظم طريقة حياته ضمن هذا المنظور الجديد ،فشيد الأماكن الجماعية الشبيهة بالقاعات الكبيرة لغرض السكن والتي احتوت بداخلها على حجيرات .وبمرور الزمن ،أنشأت العديد من هذه الأماكن الجماعية التي تمايزت فيما بينها من حيث المناعة والقوة في قدرتها على توفير مستلزمات البقاء لأفرادها.
تطورت هذه الأماكن إذن ،فتحولت إلى تجمعات اكبر ،تكدست واستلزمت بذلك تنظيم الإدارة والوظائف في الداخل بين مختلف المرافق .إنها سيرورة طويلة لنشوء ،وتشييد وتنظيم ما يسمى بالمدينة منذ عصور ما قبل التاريخ إلى اليوم : عصر المدن الميتروبوليتانية والمليونيرية والميكالوبوليس...والذي تعقدت معه المتطلبات وصعبت معه المعالجات الضرورية ذات البعد الزمني المتقدم، للمراحل المقبلة.
2) الاتجاه نحو الاهتمام ب " سياسة المدينة " أمر لا مفر منه .
التطور السريع الذي عرفته المدن بمختلف بقاع العالم المتقدم ،والمتمثل في النمو الاقتصادي والسكاني وارتفاع وثيرة التمدن ،أدى حتما إلى التفكير في آليات مناسبة لمعالجة المشاكل المترتبة عن ذلك ،فانكبت الدول المتقدمة على ما يسمى بفن " التخطيط المحكم والمعاصر للمدينة " أو ما يصطلح عليه اليوم ب" سياسة المدينة " .ما هي إذن سياسة المدينة ؟ما غاياتها وأبعادها،وما هي آليات تفعيلها ؟.
تبقى سياسة المدينة سياسة عمومية ،مندمجة وتشاورية وتشاركية لكونها توضع من طرف الدولة والجماعات الترابية بإشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني في إطار يضمن انسجام مختلف الرؤى والتدخلات حول واقع ومصير المدينة .فهي بذلك سياسة تعاقدية أيضا، بين كل المتدخلين المفترضين خدمة لمستقبل مدينة مستدامة ،اندماجية ومنتجة ومتضامنة من خلال رصد الاحتمالات المنظورة لنمو هذه المدينة أو تلك .
فحتى نستطيع أن نحدد بشكل واقعي ما ستكون عليه وظيفة ومحتوى المدينة في المستقبل ، من الضروري أن يكون لدينا تصور واضح لإمكانيات النمو فيها ،باعتبارها مركزا إداريا اقتصاديا وثقافيا، وان نحصل على معلومات حول احتمالات نمو السكان ومقدار المساحة التقريبية مثلا،اللازمة للمنطقة السكنية وحول نوع مشاريع البناء التحتي ،الفني ،في ارتباط وثيق بالشروط الطبيعية المحلية ،وطبيعة المواقع الموجودة ومدى ارتباطها أو إمكانية ربطها مستقبلا مع مختلف الشبكات المواصلاتية ،الكهربائية ،المائية والطرقية...وفق التجمعات البشرية المتوقعة المعتمدة على إحصائيات مضبوطة للنمو الاقتصادي. من خلال ما سبق ذكره ،تستفاد فكرتان محوريتان تتلخص أولاهما في كون سياسة المدينة ، سياسة استباقية ،تأطيريةوتوجيهية للأنسجة الحضرية المختلفة من المركز القروي الصاعد إلى المدينة الكبيرة ،مرورا بالمدن الصغرى والمتوسطة .أي أن استحضار البعد الاستراتيجي الطويل الأمد ،عامل مهم من عوامل النجاح في تحقيق مدن راقية وجميلة. أما ثاني الفكرتين ،فهو ضرورة اعتماد المقاربة الأفقية في إطار رؤية شمولية مندمجة ،وتعاقدية تعتمد على مبدأ التشاور والحكامة الجيدة ،ويتدخل في صنعها مختلف الفرقاء السياسيين ،التقنيين من دولة وجماعات ومجتمع مدني .
3) موقع "سياسة المدينة "من الإعراب بالبرامج الحكومية المغربية:
تنامي المدن المغربية منذ العقد الثامن من القرن الماضي ،أدى إلى بروز جملة من المشاكل لهذه التجمعات البشرية على جميع الأصعدة ،المجالية ،الاقتصادية ،الاجتماعية والبيئية ( التدفق الهائل لسكان الأرياف على المدن ،ظهور السكن العشوائي ،ومدن الصفيح... ).لتجاوز هذه الوضعية المتفاقمة ،بدأت السلطات العمومية – ولو بشكل متأخر جدا – تنحو نحو مرحلة جديدة من السياسات العمومية ،بغية الانتقال بالمدينة إلى مستوى مشروع حضري مندمج ،تدخل في استحداثه مكونات مختلفة على أساس مقاربة تشاركية بينية ، هذه المرحلة الجديدة هي ما سمي بسياسة المدينة ، التي تبنتها السلطات العمومية منذ سنة 2012.
لقد أدركت بعض قوى التغيير بالإدارة المركزية المغربية مؤخرا ،أهمية وفعالية الاتفاق والتوافق حول مشروع حضري يجعل من المدينة المغربية فضاء لإنتاج الثروة ، وتحقيق النمو ،وفضاء للتضامن الاجتماعي والتوازن بين مختلف الفئات الاجتماعية من خلال العدالة الاجتماعية وبين الأحياء المكونة لهذه المدن ،الداخلية منها والمحيطة ،عبر الاهتمام بمختلف المرافق والخدمات العمومية والتنقلات الحضرية في إطار تنمية شمولية ومستدامة ،تعتمد بالأساس على تخطيط استراتيجي وبعيد المدى (انظر مثال المنشآت العمرانية الجديدة خلال السنوات القليلة الماضية ،والتي كانت إرهاصا حقيقيا لظهور المدينة المتكاملة وفق المفهوم الجديد لسياسة المدينة ).
كما أن التعديلات الأخيرة في فصول مواثيق عمل المجالس الجماعية والبلدية، كان لها دور كبير في هذا الصدد . حيث يتم تفعيل دور المجتمع المدني والساكنة المحلية من خلال الدور الفعال للجنة المساواة وتكافؤ الفرص ،التي تساهم بمقترحاتها في تدبير الشأن المحلي للمدينة وفق منظور يجمع بين حاجيات الساكنة ومتطلبات المدينة الأنيقة ( افران ،شفشاون وبعض المدن الصغيرة بالشمال نموذجا على سبيل الحصر ، لكون اللجنة المذكورة لازالت مقيدة بعراقيل مختلفة بالمجالس المنتخبة للعديد من مدن المملكة ).فأغلبية الجماعات المحلية والمجالس البلدية ومنها مجالس بلدية ازيلال تعرف تلكؤا ملحوظا في تفعيل مقتضيات القانون 17.08 المتعلق بالميثاق الجماعي ،خصوصا ما يتعلق بالمادة 14 التي تنص على خلق اللجنة المذكورة.والجميع يعرف دورها ( لجنة المساواة وتكافؤ الفرص )في المساهمة الفاعلة في بلورة السياسة التنموية المحلية ومجال تخطيط وبرمجة المشاريع الهادفة إلى تحسين حياة الساكنة المحلية بصفة عامة.
البرنامج الحكومي بالمغرب لسنة 2012، اعتبر سياسة المدينة خيارا استراتيجيا ، بغية معالجة الاختلالات القائمة وضمان نمو منسجم ومتناسق للمدن ومصاحبة إحداث المدن الجديدة .حيث اقترح البرنامج تحويل صندوق التضامن للسكن إلى صندوق التضامن للسكنى والاندماج الحضري ، وتنويع موارده ، وحسب بعض ما كتب في الجرائد الوطنية السنة المنصرمة ،فان البرنامج يفكر في خلق تكامل بين المجال القانوني فيما يتعلق بالقدرة على تعبئة العقار وإنتاج وثائق التعمير ومواجهة المضاربات العقارية والمجال المؤسساتي فيما يتعلق بالآليات المؤسساتية الكفيلة بتنزيل وتتبع نهج "سياسة المدينة " على مستوى المدن،ثم المجال المالي فيما يتعلق بتعبئة الموارد المادية والبشرية المؤهلة لتفعيل مخططات السياسة المعنية.
رغم ذلك ،يرى المتتبعون أن المحك الحقيقي لنجاح هذه المبادرة أو تلك هو الميدان ،أي التفعيل الحقيقي لمقتضيات سياسة المدينة بكل ما تحمله الكلمة من معنى،( حيث لازال تنفيذ هذه السياسة خجولا جدا بالعديد من مدن المغرب ).
فسياسة المدينة تتوخى أساسا تغيير فضاء عيش المواطن من اجل أن يشعر بالرضي ،وبالتالي هذا من شأنه أن يدفعه إلى النهوض بواجباته تجاه هذا الفضاء .لذا فأبعاد سياسة المدينة تبقى شاملة الجوانب ،ويبقى تنفيذها بالشكل المطلوب أمرا بعيد الإقناع بالمغرب لحد الآن .
44) بلدية ازيلال و " سياسة المدينة "
تعاقبت على تسيير الشأن المحلي لمدينة ازيلال أربع مجالس بلدية وثلاث مجالس قروية منذ سنة 1975 إلى اليوم . وكان يتكون أعضاؤها من أغلبية إما أمية ، ليس بينها وبين التسيير والتدبير إلا الخير والإحسان ، أو إقطاعية ،غلبت المصلحة الشخصية على مصالح المدينة ،فسارت على درب النهب والاغتناء اللامشروع على حساب المال العام ،عبر تحقيق مشاريع شخصية ريعية محضة .
فأمام غياب المحاسبة والمعاقبة ،فان هذه الأغلبية التي صوت عليها المواطنون محليا أو أفرزتها صناديق انتخابية غير شفافة أو اقتراعات مغشوشة لم تكثرت يوما بهاجس دراسة وتحليل المعلومات والبيانات بشكل علمي صحيح عن المدينة ، يضمن إعداد مخطط إقليمي وافقي قادر على مزج وتنسيق العلاقات الوظيفية لمختلف الأبنية والفضاءات فيه، خدمة للمواطن الازيلالي ، بل اهتمت فقط بملء جيوبها قبل انتهاء الولاية .
هده الجوانب المظلمة من تاريخ تسيير أمور المدينة ،على صعيد بلدية ازيلال ،فوتت على هذه الأخيرة وعلى القاطنين بها ، فرصا كبيرة للتنمية الحقيقية ،تسهل رؤية مخلفاتها بالعين المجردة على ارض واقع مدينة مخصوصة جدا .
مع حلول أول تجربة لتسيير الشأن المحلي بالبلدية من طرف مجلس يستمد قوته من تواجد أعضاء من فئة الشباب ، وأعضاء أغلبيتهم ممن تجاوزوا مستوى الباكالوريا ، كما يترأسهم رئيس خاض تجربة ولاية سابقة قدم فيها الكثير من الأمور الايجابية بالرغم من ثقل مخلفات الفساد ... مع حلول هذه التجربة ، أصبح الحديث عن "سياسة المدينة " أمرا ممكنا ، بل متداولا في العديد من اللقاءات والملتقيات منذ سنة 2009 : التشخيص ألتشاركي ، منتدى الكفاءات ، اللقاء التواصلي مع ترانسبارانسي حول سياسة المدينة ، الحوارات المفتوحة مع النسيج الجمعوي المحلي بين الفينة والأخرى بمقر المجلس البلدي ... الخ، كلها أنشطة تحيل على هذه الحركية والدينامية التي أصبحت البلدية اليوم تقودها من اجل إرساء ثقافة جديدة مبنية على تنظيم القائم من اجل التخطيط للمستقبل من خلال إحداث تزاوج بين مختلف الرؤى باعتبارها الأساس المادي لتحقيق التنمية لجميع الساكنة عبر الاهتمام بسياسة المدينة .
رغم هذه المجهودات الملحوظة على مستوى التفكير في الاهتمام بالمدينة ( نظافة ، رونقا ، وعمرانا ...) ، إلا أننا نستخلص جملة من الاختلالات على مستوى المشاريع المبرمجة واختيار المواقع الجديدة لمختلف استعمالات الأرض أو العقار ، وذلك لعدم تعميق الدراسة حولها وبشكل شامل .
فكما أسلفنا الذكر ، تعتمد سياسة المدينة من جملة ما تعتمد عليه على رؤية مستقبلية تعتبر ايجابية ووقائية . الشيء الذي لم يكن واردا قط في المجالس المحلية المنتخبة على مر السنين . واليكم بعض الأمثلة :
* المركب الحرفي / الخرافي بأزيلال :